
فائزة محمد علي الفدعم
ذكريات جميلة جديرة بالتوثيق خطرت بذهني عن المساكن العائدة لوالدي قبل تعديل مجرى نهر خريسان ، فلكل دار حكاية مختلفة ، واستجابة لطلب بعض الاخوة المتابعين أن اكتب قصة عن العائلة التي سكنت في كل دار ، حكايات من وجهة نظر طفلة عاشت الأحداث بدقة ومصداقية ، فأرجو ان تروق لكم .
كانت الدور واجهتها على الشارع العام وخلف كل منها بيوت أخرى مقابل نهر خريسان يفصلها عن النهر شارع ضيق ، امتدادا إلى مصور اسمرة الآن ومقابل املاك السيد مهدي الحيدر ، أول البيوت كانت مقابل القنطرة التي تؤدي إلى بيت السيد عبد الكريم المدني وبيت قريبنا المحامي جمال البندر رحمهم الله كان منظر لايوصف بجماله وهدوئه ، يقصده القاصي والداني .
أول دار على الشارع العام سكنه الدكتور أكرم بشارة صديق والدي ( وقصة الدكتور موجودة الآن على الغوغل ) عند انتقال الدكتور إلى كربلاء سكن الدار مدير الشرطة السيد عبد الرزاق عبد الغفور المشهداني من أهالي الرمادي كان إنسان بمعنى الكلمة ، متواضع لاحراسة على باب داره كما جرت العادة زمان عند ذوي المناصب ، توطدت العلاقة بيننا حد النخاع أولاده السيد وليد والسيد عزام والسيد إحسان والسيد باسل والسيد محمد أمين - صاحب القصة واسمه مركب محمد أمين عبد الرزاق والبنات الست إبتسام والست جنان والست أنعام والست أحلام ولقرب المكان بيننا وبينهم كنا نتزاور صباحا ومساءا وبعد عدد من السنين نقل السيد عبد الرزاق / أبو وليد إلى كركوك وأنا ابكي ليلا ونهارا لان صديقتي الست أنعام رحمها الله منذ الصغر صلتي بها قوية جدا وحانت الفرصة لزيارتهم فذهبنا إلى كركوك بواسطة القطار الذي تم ازالته الآن أنا ووالدتي .
كان المنظر في ذلك الزمان من أروع ما يكون والقطار يتوقف في أماكن الاستراحة وهذا الكلام قبل سبعين سنة وعلى طول الطريق مطاعم بسيطة واكشاك يصعد البائع إلى القطار وبيده أسياخ التكة والكباب والمعلاك والكلاوي والفشافيش حسب الطلب والكرزات والعروك والخبز المصبع اي به طبع الأصابع وبائع اللبن والسيفون وقد ارهقني الطريق لصغر سني فنمت ورأسي على كتف أمي وبعد فترة وصلنا سالمين وسألنا عن مدير الشرطة واوصلنا الرجل إلى دار الضيافة التي كانت مسكناً لهم ، لحد الآن لم أرى في حياتي داراً واسعة وجميلة كهذه الدار . استقبلتنا الست عصمة وهي مدبرة المنزل التي تقوم بمساعدة الخالة ام وليد في اعمالها المنزلية بحفاوة شديدة واشتياق وترحاب ، وصادف اليوم ان يكون أول ايام عيد الأضحى ولم نخرج ذلك اليوم لانه استراحة من السفر ولاستقبال المهنئين بالعيد .
كان الراديو يصدح بأغنية لمحمد الكحلاوي اذكرها لحد الان وثاني يوم العيد ذهبنا لزيارة مقام النبي دانيال وكان المكان على تلة لم أنساها في مكان يسمى ( القورية ) على ما أظن مكان بسيط وجميل ولأول مرة أرى دائرة خشبية يجلس أمامها رجل مسن تسمى الحظ يانصيب وهي مثلثات في دائرة تضع عانة ( عملة نقدية ) في مثلث ويحركها الرجل يجعلها تدور ولأول مرة في حياتي افوز بعلبة جكليت صغيرة بعد ان اصاب السهم العلبة ، وكلما اتذكر هذا الموقف أشعر بالسعادة لأني لم افارق العلبة طوال سفرتنا حيث قضينا أمتع الأيام وحان وقت العودة إلى بعقوبة فبكيت لانني ساعود لشدة تعلقي بهذه العائلة .
بعدها تم نقل السيد عبد الرزاق ابو وليد إلى كربلاء وعاودني الحنين وبعد إلحاحي الشديد عزمنا على الذهاب إلى كربلاء وسافرنا بباص - دگ النجف - ولاحت لنا المنائر الذهبية للمراقد المقدسة لإئمتنا الاطهار الحسين والعباس عليهم افضل الصلاة والسلام ونوينا الزيارة .
كان الاستقبال حار جداً وفي الغرفة المعدة لاستقبالنا وضعت السيدة ام وليد مالذ وطاب من مستلزمات الضيافة ، وعند صلاة المغرب رأيت منقلة ( اداة شواء ) كانت كبيرة جداً والفحم المتوهج يعطي منظراً رائعاً واللهب يتصاعد إلى الأعلى واطباق الشواء والسلطة والفواكه مرصوصة على طاولة كبيرة تسرّ الناظرين وكان النعاس قد أدركني ولم أحظى بالوليمة .
وبعد فترة تقارب الأربعة أيام رجعنا وبقي التواصل مستمراً بين العائلتين حتى تم نقل السيد أبو وليد إلى بغداد ، واصبحت التزاور اسهل لقرب المسافة .
مرت الايام ووصلت إلى المرحلة المتوسطة واستمرت الخالة ام وليد ترسل الهدايا لكل أفراد العائلة وخصوصا لاختي الست عالية لانها - أخر العنقود - مع محمد أمين أصغر اخوانه ، وتأتي الخالة أم وليد إلى بعقوبة محملة بكل ماهو جميل من الاقمشة على انواعها وعلب الشكولاتة لان معامل النسيج في خان بني سعد وشركة بسكولاتة في بغداد من املاكهم والتي بيعت قبل مدة قصيرة من قبل الورثة وهم اهل خير وطيبة وكرم . ونرجع إلى المهم إلى آخر العنقود بطل حكايتنا الأبن الأصغر محمد أمين .
استمرت زياراتنا لبيت الخالة أم وليد الى بغداد حيث كانت الاخت والصديقة المقربة لوالدتي رحمها الله .كبر الاولاد والبنات لكننا لم نكبر على ذكريات الطفولة ،كان الأبن الأصغر محمد أمين عبد الرزاق مواليد 1951 ، شاباً مدللاً يهوى الرسم والشعر وجمع الطوابع وكان ضمن مجموعة للدراسة الخصوصية قبل اكماله الدراسة المتوسطة ، وبرفقته أحد الاصدقاء في المجموعة والذي كان مؤمناً بالقضية الفلسطينية ويحدثه عنها دائماً ، فآمن بها محمد أمين هو الأخر وأراد التطوع ، فتطوع ضمن تشكيلات منظمة فتح ، رغم أنه كان ضعيف البنية لكن روح الشباب الحر تملكته ، فسافر وتدرب ضمن تشكيلات المقاومة ونفذ عدداً من العمليات داخل الأرض المحتلة مع رفاقه في السلاح ورغم صغر سنه كان بطلاً مشهوداً له بالشجاعة والفداء وكانت والدته شديدة القلق عليه وتحزن لفراقه دائماً .
وفي يوم من الايام وصلتها رسالة منه بعد ان سمع بمرضها وحزنها يعدها فيها بأن يعود لها ولاكمال دراسته الاعدادية بعد أتمام مهمة تكلف بها بدلاً عن أحد رفاقه في السلاح . أتم المهمة ومجموعته داخل الأراضي المحتلة بنجاح وفي طريق العودة وعند عبوره جسر من جسور نهر الأردن أصيب بإطلاقة من قناص صهيوني وسقط شهيداً في نهر الأردن .
وبعد ثلاثة أيام قامت الحكومة الأردنية بتسليمه الى ذويه رحمه الله ، وأقيم لجنازته تشييع مهيب وبالطبول من جامع الدهان مقابل اعدادية الحريري للبنات حتى مقبرة الاعظمية حيث واروه الثرى .
كان عمره عند استشهاده 17 عاماً وبضعة شهور وكان تاريخ استشهاده 30/7/1968 رحمه الله . لا زالت صداقتنا لهذه العائلة الكريمة لحدّ هذه اللحظة . الرحمة لارواح كل الشهداء وموتانا وموتاكم يارب . بعض حكاياتي لا تنتهي بالفرح دائماً وهذا هو حال الدنيا التي لا تثبت على حال
