
صباح الزهيري
يبدو ان صاحبنا الثمانيني قد حول أتجاه قلبه من الشام الى الكويت , فبعد صاحبته الكلبية , التي كان يناديها بنخلة الشام ويقول ان كلماتها رطب في زمن تشتد فيه ملوحة كل شيء , هاهو ينقل الينا قول كاتبة كويتية :
بالكتابة يتم اصطياد الفرح ,
هذه العبارةَ ليستْ مجردَ مقولةٍ عابرةٍ , بل هيَ فلسفةٌ عميقةٌ تُجسّدُ العلاقةَ الحميمةَ بينَ التعبيرِ الإنسانيِّ والسعادةِ , عندما نُمسكُ القلمَ , سواءً لكتابةِ يومياتٍ شخصيةٍ , قصيدةٍ مُلهمةٍ , قصةٍ قصيرةٍ , أو حتى مجردِ خواطرَ عفويةٍ , فإننا نَخلقُ مساحةً آمنةً لذواتنا , مكانًا تتجلّى فيهِ المشاعرُ بلا قيودٍ ولا أحكامٍ , هنا , لا يكونُ الفرحُ مجردَ شعورٍ لحظيٍّ يمرُّ سريعًا , بل يصبحُ كيانًا ماديًا , يتمُّ الإمساكُ بهِ عبرَ الحروفِ التي نُشكّلها. هناك من كتب :
وهل تكون الحروف غير آثار أرواحنا ؟ ,
تقول الشاعرة الأمريكية الشجاعة أدريان ريتش :
نحن نمضي , لكن كلماتنا باقية , لتغدو مؤولةً عمّا هو أكثرُ مّما قصدناه ,
والكاتب يستعين بأدواته الماهرة ليفتح الكثير من القواقع , وليقاسم الفرح لؤلؤ الحرف ومرجان الاحساس , فلتهنأ النخلة ما دام مطراً يسقيها في زمن شحّت فيه الأنهار , لتكون كتاباته مثل هدية العيد. وكل مقال هدية وتشوقاً إلى المقال التالي , سألت الكاتبة الكويتية باسمة العنزي صديقتها بشرى خلفان : ما حلم بشرى؟
فأجابت : بيت لي وحدي أكتب على جدرانه ما أشاء ,
وأضافت من خلال وظيفتي في الجامعة , مارست طويلا تدريس استراتيجية الكتابة واستراتيجية القراءة , وكنت دائما ما أشير لطلبتي إلى أن كلتا المهارتين تصبّ في منبع واحد , وأن القارئ الجيد بإمكانه أن يكون كاتبا جيدا والعكس صحيح , لكنني هنا وفي هذا المقام لا أقارن بين أهمية كلتا المهارتين وانما أتساءل:
أيهما أكثر متعة ؟ .
من سموّ أخلاق المبدع : أن يقوم بنشر خفايا تجربته , وتعليم غيره , واحتواء المبتدئين وفتح آفاق الإبداع أمامهم , و تحضرني هنا مقولة لكونديرا يُفهم منها أن لدى الكاتب فكرة واحدة , يكرّس لها كل كتاباته , كأنه يرى أن تلك الفكرة تتجلى بعمق أكبر في واحد من كتبه , فيما بقية الكتب هي تنويعات على الفكرة نفسها , التوقعات العالية ليست نتاج عقل خَبَرَ هذه الحياة , وعرف طبائع الناس وكيف يفكّرون وكيف يعيشون , حصل مرّة أو مرّتين أن إعتزمتُ التوقف عن الكتابة , لكني كنت أسائلُ نفسي : وهل سأكون بحال أفضل لو توقفتُ عن الكتابة ؟ حين تُصطادُ البهجةُ بالحبرِ والورق , تكون الكتابةُ فخٌّ للفرحِ , ففي زحمةِ الحياةِ ورتابةِ الأيامِ , غالبًا ما يتسللُ الفرحُ خلسةً , يتوارى خلفَ همومٍ صغيرةٍ أو ضغوطٍ متراكمةٍ , نبحثُ عنه في الأماكنِ الصاخبةِ , في التجمعاتِ الكبيرةِ , أو حتى في لهوٍ عابرٍ, ولكننا قلّما ندركُ أنَّ أعظمَ فخٍّ يمكنُ أنْ نَنصبَهُ لاصطيادِ هذهِ المشاعرِ النقيةِ يكمنُ بينَ أصابعنا , في قلمٍ وورقةٍ , أو خلفَ لوحةِ مفاتيحٍ بيضاءَ , إنَّها الكتابةُ , تلكَ العمليةُ السحريةُ التي تُحوّلُ العواطفَ المتناثرةَ إلى كلماتٍ , والأفكارَ العابرةَ إلى نصوصٍ خالدةٍ , لتصبحَ بذلكَ أداةً فريدةً لاصطيادِ الفرحِ وتخليدِهِ .
تخيلْ لحظةً من البهجةِ الصافيةِ : ضحكةُ طفلٍ , شروقُ شمسٍ على أفقٍ بعيدٍ , إنجازٌ طالَ انتظارُهُ , هذهِ اللحظاتُ العابرةُ , رغمَ جمالها , قد تتلاشى في غياهبِ الذاكرةِ , لكنْ , عندما نُحوّلها إلى كلماتٍ , نُدوّنُ تفاصيلها , نُحلّلُ أسبابها , ونُعبّرُ عن تأثيرها في أرواحنا , فإننا نُثبّتُها , تُصبحُ كلُّ كلمةٍ فخًّا صغيرًا يُمسكُ بقطرةٍ من ذلكَ الفرحِ , ويُجمّدُها في الزمنِ , بهذهِ الطريقةِ , يمكننا العودةُ إلى هذهِ الصفحاتِ في أيِّ وقتٍ , واستعادةُ تلكَ المشاعرِ, كأننا نعيشُها مرةً أخرى ,انه بوح رائع بصدقه وعفوية انسيابه لصاحبتك الكويتية , شخصياً اعتبره محظوظاً مَن امتلك محفزاً واحداً للنهوض من رقاد السرير المفروض عليه , حتى وان أختُصِرَ ذلك المحفز بسقي زهرة , او اطعام قطة تنتظره لتعيش , فما اروع ان يكون الدافع مباهج الغوص في بحور الكتابة , وحضرتها قبطان السفينة المحملة بكنوز الفكر والفلسفة والعلم والادب , فلها من خلالك بساتين المحبة والعافية أديبتنا الغالية , أيّ منها هو الظل وأيها الأصل ؟
ليست الكتابةُ حكرًا على الأدباءِ والمحترفينَ , كلُّ فردٍ يمتلكُ القدرةَ على الكتابةِ , وكلُّ فردٍ يمتلكُ الحقَّ في اصطيادِ فرحهِ بهذهِ الطريقةِ , سواءً أكانتْ رسالةً شكرٍ نُرسلها لصديقٍ, أو وصفًا مُفعمًا بالحياةِ لرحلةٍ جميلةٍ , أو حتى مجردَ قائمةِ امتنانٍ يوميةٍ , فإنَّ كلَّ كلمةٍ تُكتبُ بصدقٍ هيَ خطوةٌ نحو احتضانِ الفرحِ وتثمينهِ , والكتابةُ أيضًا هيَ عمليةُ اكتشافٍ للذاتِ , ففي أثناءِ الكتابةِ , قد نُدركُ مصادرَ الفرحِ التي لم نُلاحظها من قبلُ , قد نُفاجأُ بمدى تأثيرِ أبسطِ الأشياءِ في نفوسنا , أو نُعيدُ تقييمَ أولوياتنا , عندما نُفصّلُ مشاعرَنا على الورقِ , نُصبحُ أكثرَ وعيًا بداخلنا , وهذا الوعيُ غالبًا ما يقودُ إلى حالةٍ من الرضا والسلامِ الداخليِّ , وهما من أهمِّ مكوناتِ الفرحِ الحقيقيِّ , فلنجعلْ من الكتابةِ عادةً يوميةً , ليسَ فقط للتعبيرِ عن أحزاننا وهمومنا ونفثها , بل أيضًا للاحتفالِ ببهجتنا , لنجعلْ من الحبرِ والورقِ فخًّا أنيقًا نُمسكُ بهِ الفرحَ قبلَ أنْ يتسللَ من بينِ أيدينا , ونُخزّنهُ في صفحاتٍ تُصبحُ بمثابةِ كنزٍ ثمينٍ نستمدُّ منهُ النورَ كلما احتاجتْ أرواحنا إليهِ , لأنَّ الفرحَ , كالصيدِ الثمينِ , يستحقُّ أنْ نُجاهدَ لاصطيادِهِ , ولا توجدُ أداةٌ أنبلُ وأجملُ من الكتابةِ لتحقيقِ ذلكَ .
تجربتي الشخصية مع الكتابة تجعلني أعطيها الأفضلية في بعض النواحي , فالكتابة غالبا ما تحوي في إطارها حوارا مع النفس والعقل والذات , سواء كانت كتابة أدبية أو نقدية أو سياسية , في الكتابة يكون الكاتب هو المؤدي وهو الجمهور في الوقت نفسه , هو المتحدث والناقد معا , وهو المرسل والمتلقي كذلك , لذلك , وبرأيي انها وان كانت اكثر مشقة وصعوبة , فإنها ايضا اكثر إلهاماً وتأجيجا للقريحة ولكل ما تضج به ذواتنا , لقد وقعت في مصيدة الكتابة , التي لم تبارحني , مثلما لم تفارقني المعاناة والمكابدة التي كانت حقيقية , كانت الكتابة بالنسبة لي متعة وعذاب على حد تعبير الروائي غابريل غارسيا ماركيز , فهي لذّة وألم في آن , وكنت أريد الآني لدرجة لا أريد لحظة تطير من بين أصابعي , كنت أريد أن أحوّل كل ذلك إلى الكتابة وحسب حكمة همنغواي :
لا يجوز للمرء أن يتوقف عن الكتابة سوى بعد أن يعرف كيف سيتابع في اليوم التالي , أي ماذا سيكتب؟ .
