
محمود الجاف
في لحظةٍ ما من الزمن، بينما تجلس الأم منشغلةً بهاتفها، والأب يغرق في تفاصيل الحياة اليومية، يولد في قلب طفل صغير سؤال بسيط :
من أنا؟ ولماذا أنا هنا؟
هذا السؤال، الذي ربما لم يُنطق يومًا هو أول بذور الوعي . وإن لم يجد من يعلّمه كيف يروي هذه البذرة، فسينمو مشوّهًا، باهتًا، هشًّا. يحمل جسد إنسان، لكن بروح مكسورة، وعقل تابع . لان التربية الخاطئة لا تخلق أطفالًا سيئين، بل ضحايا بأجساد سليمة، مشلولين من الداخل . لا يعرفون كيف يحبون بوعي، أو يكرهون بوعي، أو يعيشون الحياة بأدواتها الحقيقية.
علّموهم أن يقولوا "لا"
ليس تمرّدًا، بل حفاظًا على النفس.
هذه الكلمة قد تُنقذ الروح من الاستغلال، وتحمي الجسد من العبث، وتبني الكرامة في وجه الطغيان . من لم يُربَّ على قوة الكلمة، سيقضي حياته مطأطئ الرأس، عاجزًا عن مواجهة نفسه والآخرين .
علّموهم أن يتعرفوا على أنفسهم.
كل طفل يولد حُرًا، لكنه يُسجن في تصورات الآخرين عنه. علموهم أن ينظروا في المرآة، لا ليروا وجوههم فقط، بل ليتأملوا نفوسهم. أن يسألوا:
من أنا؟
ماذا أريد؟
ما الذي أرفضه بشدة حتى لو كلّفني كل شيء؟
الجسد ليس أداة، بل وطن .
علموهم أن أجسادهم ليست للزينة، ولا للسخرية، ولا للإهمال. بل وطنٌ صغير، إن أهملوه، خانهم في منتصف الطريق. علّموهم كيف يأكلون بوعي، كيف ينامون بحب، كيف يتحركون ليحافظوا على هذا الكيان الذي يحملهم نحو العالم.
علموهم أن يحافظوا على قلوبهم .
أن يكونوا أناسًا لا مجرد آلات. أن يعرفوا كيف يهدأون حين يعصف الألم، كيف يصمتون حين يعلو الضجيج، كيف ينهضون حين يسقطون. الطفل الذي لا تُعلّمه كيف يُهدئ فوضاه، سيتحوّل إلى بالغ يُخيف نفسه والآخرين.
علموهم القيادة لا التبعية.
لا تصنعوا موظفين صغارًا، مبرمجين على الطاعة العمياء.
علّموهم أن يسألوا:
لماذا أفعل هذا؟
وهل هذا صحيح؟
ومن قال أن هذا الطريق هو الأفضل؟
الذي لا يسأل ويفهم صار عبدًا بامتياز .
لا تلقنوهم الكرامة.. بل عيشوها أمامهم.
الكرامة لا تُعلَّم بالكلمات، بل تُدرَّس بالأفعال. لا تنهَهم عن الانكسار، وأنت تنكسر في كل موقف . لا تحدثهم عن العزة، وأنت تتنازل عن ذاتك كل يوم. من يخسر شيئًا من أجل كرامته . لم يخسر شيئًا أبدًا.
المسؤولية لا تأتي مع الزواج، بل تُزرع منذ الطفولة.
علّموهم معنى أن يكونوا مسؤولين عن كلماتهم، عن أفعالهم، عن قراراتهم. علّموهم أن الحب ليس كلمات، بل رعاية . وأن العائلة ليست عبئًا، بل مشروعًا مقدسًا. وأن الأولاد لا يُنجبون ليكملوا النقص، بل ليُكملوا الدرب.
علموهم أن يفكروا . لا أن يحفظوا.
لا تجعلوا عقولهم صناديق مغلقة تحفظ كلامكم . علّموهم كيف يميزون الصواب من الزيف، كيف يقرأون الحياة، كيف يبحثون عن الحقيقة وسط الضجيج . الفكر الناضج لا يولد من الممنوعات، بل من التساؤل: لماذا؟ وكيف؟ وهل هذا حق؟
الدين ليس عادة، بل وعيٌ عميق.
علّموهم أن الله لا يُعبد بالخوف فقط، بل بالمحبة، بالفهم، بالبحث. لا تجعلوهم يكرهون الدين لأنه صار قيدًا في طفولتهم . بل افتحوا قلوبهم ليتذوقوا الإيمان، لا ليحفظوا طقوسه .
الرياضة ليست ترفًا بل ضرورة.
علّموهم أن القوة لا تكمُن في الصوت العالي، بل في الجسد المتماسك والعقل الحاضر. الرياضة ليست هواية، بل صداقة مع الجسد، وانضباط مع النفس.
لا تمنعوهم من الكذب فقط . بل علّموهم لماذا الصدق حياة.
قولوا لهم:
الصدق يُكلف . لكنه يُحرر.
الكذب سهل . لكنه سجن.
لا تقولوا: "لا تكذب"، بل بيّنوا لهم كيف يؤذيهم الكذب، وكيف يُنقذهم الصدق من الغرق في الزيف.
علموهم أن يعيشوا كالبشر.. لا كالحيوانات.
علموهم أن الحياة ليست صراعًا على الطعام والنوم والجنس والراحة فقط. علّموهم أن الإنسان خُلق ليرتقي، لا ليُقلّد. وأن الكائن الذي لا يُفكر، لا يحس، لا يتطوّر . لا يختلف كثيرًا عن الحيوان وإن لبس أجمل الثياب.
تربية الأطفال ليست مشروعًا صغيرًا، بل بناء حضارة كاملة. من لم يُربِّ أبناءه، سلّمهم للعالم ليربيهم كما يشاء . وما أكثر أولئك الذين يعيشون اليوم بيننا . يلبسون وجوهًا بشرية، لكنهم صنيعة تربية مهترئة، لم تُعلّمهم سوى أن يصمتوا، يطيعوا، ويُسحقوا بأدب.
يا أيها الآباء،
يا من في أيديكم قلوبٌ صغيرة تنبض بأمل الحياة .
لا تخذلوهم. ربّوهم ليكونوا:
أحرارًا، لا عبيدًا.
قادة، لا تابعين.
أناسًا، لا مسوخًا.
فإن فشلتم في هذا...
فلن يُسامحكم التاريخ، ولا هم.
