
نازنين الجاف
مع كل فجر جديد، ومع كل غمضة عين، كنتُ أشكر الخالق على يومٍ آخر منحني إياه. لا أتذكّر من الماضي سوى الأيام التي أعيشها الآن، في حضن الطبيعة، بين الأصدقاء، وبين أحبابي . استيقظتُ باكرًا على رائحة الشاي المنعشة التي ملأت المكان بهدوء . خرجتُ من غرفتي لأجد ليلى تعدّ الفطور، والطفل آدم يركض في الخارج خلف الأرانب وصغار الماعز، ضاحكًا، متعثرًا، مليئًا بالحياة. كانت أخته جميلة تراقبه عن قرب، تعتني به بحنان الأم رغم صغر سنها. بينما كان الآخرون منشغلين بأعمالهم، كنت أنا وليلى نُحضّر الطعام. لم أكن أرى سليم إلا نادرًا، إما وقت الغداء أو عند المساء، حين يعود مرهقًا إلى فراشه.
مرّت شهور من العمل الشاق. استطاع طاقم السفينة بناء بيوتٍ من الخشب والحجر بين الجبال، كانت بسيطة لكنها دافئة. لم يتركوا تفصيلة دون أن يعتنوا بها؛ من الحمّامات والممرات، إلى الحدائق الصغيرة التي أحاطت المكان بالأزهار .
أما سليم . فقد وعدني ذات ليلة أن يبني لي قصرًا، تمامًا كما فعل الملك نبوخذنصر لحبيبته في بابل . وبالفعل، بدأ يكسر الأحجار الملونة من الكهوف المجاورة، ويجمعها لبناء جدران قصرنا. كان يبدو وكأنه يصنع لوحة فنية، لا مجرد بيت. وعندما انتهى الآخرون هبّوا جميعًا لمساعدته في إكمال البناء . شرفات القصر كانت مرصّعة بأحجار السيترين والزبرجد والگارنت والياقوت الأزرق. كانت تلمع تحت ضوء القمر كأنها نجوم هبطت على الأرض. زرع سليم الياسمين والنباتات حول جدران القصر، وأنشأ شلّالًا صغيرًا بجواره، ليُصبح المكان جنة على الأرض . جنائن بابل المعلّقة، لكن هذه المرة، من أجلي أنا.
في قاعة القصر الواسعة، وضع سليم كُرسيًا فخمًا، مطرّزًا بالأحجار الكريمة. قال وهو يبتسم :
هذا لكِ . أنتِ ملكتي .
جلستُ على العرش وأنا لا أصدق ما أراه. أمام الجميع، أعلن حبه وولاءه لي. نظرتُ إليه بعينين مليئتين بالفخر والإعجاب. كنتُ أعرف أنه مختلف . لكنه دائمًا يفاجئني بما هو أكثر. كان حبّي له يزداد يومًا بعد يوم. لم يكن قصرًا فقط ما بنيناه، بل مملكة صغيرة من الحب والتفاهم والدفء.
في تلك الأيام، ركّز سليم على إصلاح جهاز اللاسلكي في السفينة. جمع كل ما يعرفه من خبرة، وساعده الطاقم، حتى نجحوا أخيرًا في التواصل مع مركز الشركة. وبعد أيام، وصل زورقا جديدا . لم يصدقوا ما رأوه حين نزلوا إلى الجزيرة : حياة بسيطة لكنها نابضة بالجمال . والقصر العجيب الشكل والبناء .
قال أحدهم :
هذا يشبه القصص الخيالية . كيف عشتم هكذا؟
ابتسمتُ، وقلت بهدوء : كنا نعيش بالحب.
شكرونا على الضيافة، ووعدونا بأن ينشروا قصتنا للعالم، وأن يرسلوا لنا ما نحتاجه لبناء منتجع حقيقي يستقبل السياح. ربما تصبح هذه الجزيرة الصغيرة يومًا ما، مكانًا يقصده العشّاق والحالمون.
بعد ساعات من الاستعداد، رفعت السفينة أشرعتها من جديد، متجهة إلى وطنها. ودّعناهم بابتسامة، وقد عاد الأمل لقلوبهم بعد أن كانوا يائسين من النجاة. أما نحن . فقد بقينا هنا، في جزيرتنا، نبني كل يوم حلمًا جديدًا، ونعيش أسطورة جميلة ..
تشبه "جنائن بابل المعلّقة ".
