غزة.. الدم الذي لايبكيه احد

اثنين, 09/01/2025 - 12:10

 

‏محمد النصراوي

‏غزة اليوم ليست مجرد مدينةٍ محاصرة على شاطئ المتوسط، بل هي اختبارٌ صارخٌ لضمير العالم، اختبارٌ سقطت فيه القوى الكبرى منذ اول يوم، وتورطت فيه حكومات المنطقة، وتواطأت فيه المؤسسات الدولية التي وُجدت أصلاً لحماية الإنسان.

‏منذ اندلاع الحرب الأخيرة، لم يعد خافياً أن الدماء لا تُقاس بمعيار واحد، فدماء الأوكران صارت عنواناً للإنسانية، أما دماء الغزيين فتصنف كـ"أضرارٍ جانبية"، ملايين اللاجئين الأوكران فُتحت لهم الأبواب، احتُضنوا في أوروبا، نُظر إليهم كضحايا أبرياء، بينما الطفل الفلسطيني لا يجد مكاناً حتى في خيمة، بل يُترك يئن تحت الركام أو يسجل كرقمٍ جديد في قائمة القتلى.

‏الغرب الذي قال إن أوكرانيا تدافع عن سيادتها، أعطى إسرائيل رخصةً مفتوحةً للقتل بذريعة "الدفاع عن النفس"، ازدواجيةٌ فجة لا تحتاج إلى تحليلٍ طويل، تكشف أن القيم المعلنة مجرد أقنعة، وأن السياسة في زمننا تُدار بمنطق المصلحة لا العدالة.

‏لكن المفارقة، أن أوكرانيا رغم المليارات التي تدفقت اليها، والأسلحة التي أغرقت أسواقها، والتحالفات التي اصطفت خلفها، لم تستطع حتى اليوم أن توقف خسارة أراضيها لصالح روسيا، في المقابل، غزة المحاصرة منذ أكثر من سبعة عشر عاماً، براً وبحراً وجواً، والمقطوعة عن العالم إلا من شريانٍ ضيق، استطاعت أن تُبقي النار مشتعلةً في خاصرة خصمها، وأن تقول بصوت الفعل لا الخطاب أن الإرادة إذا وُجدت كسرت كل المعادلات.

‏الغرب ليس وحده من خذل غزة، فالمشهد العربي أشد وجعاً، كثيرٌ من الأنظمة التي ترفع شعارات "القومية" و"التحرر" أغلقت أبوابها في وجهها، وشاركت في حصارها، وغطت ذلك بحججٍ واهية، مرةً بدعوى "الضرورات الأمنية"، ومرةً بذريعة "الالتزامات السياسية"، لكن الحقيقة التي يراها كل فلسطينيٍ بوضوح، أن غزة تُترك لتذبح وحيدة، وأن أشقاءها الأقربين صاروا جزءاً من الطوق المفروض عليها.

‏الخطر أن القضية لن تقف غداً عند حدود غزة، هذه المدينة الصغيرة هي السد الأول، فإذا ما انهار، فإن الطوفان سيصل إلى بقية العواصم، اليوم تُحاصر غزة بإسم الأمن، وغداً سيُحاصر غيرها بالذريعة ذاتها، وحينها لن يجد من تخلى عنها مبرراً سوى أن يردد بحسرة "أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض".

‏ما يجري في غزة ليس مجرد حرب، بل إعادة تشكيلٍ للوعي العالمي، هناك كُشف زيف الخطاب الغربي الذي طالما بشر بالحرية وحقوق الإنسان، وهناك انكشفت هشاشة النظام العربي الذي ارتضى أن يكون متفرجاً أو شريكاً في الحصار، وهناك أيضاً وُلدت معادلةٌ جديدة "مدينةٌ صغيرةٌ محاصرة يمكن أن تُرعب قوةً نووية، وتُفشل خططاً مدروسة، وتفرض حضورها على الطاولة الدولية".

‏غزة اليوم مأساة، نعم، لكنها أيضاً معجزة، مأساةٌ لأنها تُترك لتواجه مصيرها وحيدة، ومعجزةٌ لأنها تصمد رغم أنف الجميع، ومن بين الركام، تكتب للأجيال القادمة أن العدالة قد تُغتال، وأن العالم قد يصمت، لكن الإرادة لا تُكسر.

‏ويبقى السؤال الذي سيطارد الضمير العالمي طويلاً، كيف يمكن أن تُرفع شعارات الحرية في كييف، بينما يُخنق آخر نفسٍ في غزة؟ وكيف يمكن أن يكون الدم الفلسطيني رخيصاً إلى هذا الحد؟

‏غزة لا تنتظر الإجابة من احد، فهي مشغولةٌ بالصمود، لكنها تترك خلفها وصيةً واضحة "إذا صمتتم اليوم، فلن يكون صمتكم غداً بلا ثمن".

 

Share

أخبار موريتانيا

أنباء دولية

ثقافة وفن

منوعات وطرائف