بيوت الدعارة السياسية

أحد, 08/24/2025 - 13:06

 

بقلم : محمود الجاف

 

عندما يحكم القوّادون، يُباع الشرف على أرصفة السياسة بثمن بخس، وتصبح القيم مجرد شعارات مهترئة تُرفع لتغطية العفن. لأن القوّاد لا يُدير بلدًا، بل يدير شبكة مصالح. يبيع الأرض كما يبيع الجسد، ويُساوم على الدم كما يُساوم على العرض، فهو لا يرى في الناس إلا زبائن، وفي الوطن إلا بيتًا للدعارة السياسية. أما بعض نسائهم، فإنهن يُصبحن أدوات حكم؛ يُجملن القبح، ويعطرن الجريمة، ويُغنين في مآتم الشعوب. يرقصن فوق الجماجم، ويُصفّقن لكل طعنة. يَظهرن في الإعلام، لا ليدافعن عن النساء، بل ليُزيّنّ قيود العبودية باسم التمكين، ويُجمّلن الاغتصاب السياسي باسم التحرير. وحين يصرخ المظلوم، يتهمنه بالتخلف والخروج عن أدب العبودية. لأن حكمهم ليس انحطاطًا فقط، بل هو اختلالٌ في ناموس الوجود، حيث يُصبح الشريف متهمًا، والفاجر قدوة، والمومس رمزًا للمقاومة .

 

في إحدى المدن، كان هناك رجل معروفٌ بين الناس بأنه خادم في مجلس أحد القوادين الكبار. فلما مات مولاه، تسلق السلم عبر النفاق والدسائس، حتى أصبح واليًا. كان يحيط نفسه بزمرة من الراقصات والعاهرات السابقات، يُنادين به (الأمير)، ويُدرن له المجالس التي تُعقد ليلًا ليُحكم بها الناس نهارًا. أما العلماء، فإما سُجنوا أو نُفوا، والشعراء صاروا يهجون أنفسهم ليحظوا بلقمة.

 

وفي أحد الأيام، دخل عليه شيخ كبير في السن، لكنه كان فقيهًا وعالمًا بالأدب، وقال له :

 

( يا هذا : إنك لم تجلس على هذا الكرسي لأنك تستحق، بل لأن الرجال نُحروا، والأصوات خُنقت، فطفا الزبد. فإن كنت قوّادًا، فاحكم مجلس الطرب، لا مصائر الأمة! )

فغضب وأمر بصلبه في ساحة السوق. وظل الناس يمرّون به أيامًا، حتى كتبت امرأة على حائط الساحة :

( إذا صُلب العلماء وتوّجت المومسات، فاعلم أن الساعة قد اقتربت ) .

 

إن حكم هؤلاء هو نقيض للوجود الكريم؛ فيه تتحوّل الحقيقة إلى سُبة، والفضيلة إلى سذاجة، والصدق إلى جريمة. عالمٌ مقلوب، تمشي فيه الأكاذيب في مواكب، وتُرجم الحقيقة بالحجارة. وإذا استمرّ ذلك، فسينشأ جيل لا يعرف أن هناك شيئًا اسمه الحق أصلًا؛ جيل يظن أن الشرف أسطورة، والذل فضيلة، والانبطاح فنّ سياسي .

 

ويا لَخسارة الأمم التي تُصفّق لجلاديها، وتبكي حين تُسحب السكين من عنقها، لا عندما توضع.

 

عندما تُحكم الشعوب بالحديد والنار، ويُنهَب مالها، وتُكسر إرادتها بالقمع والفقر والمخدرات، فإننا لا نتحدث عن خلل مؤقت، بل عن نظام متكامل من الإفساد والتجويع والسيطرة. وهذه الأنظمة لن تسقط بالمواعظ أو الانتفاضات العاطفية فقط، بل من خلال زراعة وعي حقيقي، لا شعارات. وعي بالحقوق، بالاقتصاد، بالتاريخ، وبأن التغيير ليس أن يُستبدل وجه الحاكم، بل أن يُعاد تشكيل النظام بالكامل .

 

دعم التعليم الشعبي، ونشر فكر مقاوم لا يعتمد على التبعية ولا على الأسطورة، وكشف أساليب السيطرة (الإعلام المزيف، شراء الذمم) يجب أن تكون أولى معاركنا مع الجهل، وليس الحاكم .

 

لا يمكن إسقاط نظام بلا بديل. لا تنتظر من الطبقة الفاسدة أن تسقط وحدها. لابد من بناء بنية موازية داخل المجتمع :

 

اقتصاد مقاوم مثل : مشاريع صغيرة، اكتفاء ذاتي، شبكات تبادل محلية.

إعلام بديل : منصات شعبية تنقل الحقيقة بكل اللغات وتفضح المستور.

وقيادة بديلة : أشخاص نزيهون، يُعدّون بصمت، ويُحمَون من التشويه.

إن الأنظمة القمعية تعيش على الخوف، وكسره لا يكون بالنزول إلى الشارع فقط، بل بكشف المستور بهدوء، ومحاسبة الفاسدين معنويًا، وحماية الشجعان بدل التضحية بهم في كل مرة. لأن الثورات تنجح عندما ينهار الخوف، لا عندما يموت الأبطال. وترك الرهان على الخارج، لأن هؤلاء لهم مصالح، لا مبادئ. فابحث عن تحالفات داخلية حقيقية : فئات متضررة، نقابات، طلاب، فلاحين، نساء، عمّال. وحافظ على الاستقلالية، لأن من يقع تحت جناح السيد يعود عبدًا، لكن بثوب جديد.

 

إن النصر ليس قريبًا دائمًا. أحيانًا جيل يُمهد، وآخر يُقاتل، وجيل يحصد. ولا حل دون تضحية، لكن الذكاء والحكمة أولى من الحماسة. وتذكروا دائمًا : إن القادة يولدون من الوعي، لا من الانتظار. وإن الحل ليس في الثورة فقط، بل في إعادة بناء الإنسان الذي كسرته الطغمة، وعزله الخوف، وسرقه الفقر.

عندما ينهض هذا الإنسان، مهما طال الزمن، يسقط الجلاد، وتُكسَر القيود.

 

Share

أخبار موريتانيا

أنباء دولية

ثقافة وفن

منوعات وطرائف